تأثير القراءة مقابل مشاهدة التلفاز أو استخدام الهاتف على الطفل
في هذا العصر الرقمي، تغير التوازن بين القراءة التقليدية والأنشطة المعتمدة على الشاشات مثل مشاهدة التلفاز أو استخدام الهواتف الذكية بشكل كبير. وبينما تحفز كل من القراءة والأنشطة المستندة إلى الشاشات الدماغ، فإن طبيعة تأثيرها تختلف بشكل كبير و متباين. دعونا نستعرض في هذه المقالة التأثيرات المعرفية، والعاطفية، والتطورية للقراءة مقارنةً باستهلاك الوسائط المعتمدة على الشاشات، مع الاعتماد على أبحاث علم الأعصاب الحالية. يُعد فهم هذه الفروقات أمرًا حيويًا لاتخاذ قرارات مستنيرة حول استهلاك الطفل لهذه الوسائط وآثارها على التعلم، والنمو، وصحة الدماغ بشكل عام.
1- التأثيرات المعرفية :
- القراءة :
المشاركة الفعالة :
تُعد القراءة عملية معرفية نشطة تتطلب انتباهًا مستمرًا، وفهمًا، وتفكيرًا نقديًا. يحتاج الدماغ خلالها إلى فك الرموز (الحروف)، وتكوين الارتباطات، وإنشاء التصورات الذهنية. تتم هذه العملية المركبة بمشاركة و تحفيز مناطق متعددة من الدماغ، بما في ذلك تلك المسؤولة عن معالجة اللغة (القشرة الصدغية اليسرى)، إضافة إلى مناطق المعالجة البصرية، والخيال.
المعالجة العميقة :
تشجع القراءة على التفكير العميق والتأملي. فهي تتطلب عمليات معرفية عليا مثل استخلاص الاستدلالات والتحليل النقدي، مما يعزز من قدرة الذاكرة وفهم الأفكار المعقدة.
تعزيز الروابط العصبية :
القراءة، خاصة القصص السردية، تقوي الروابط العصبية في الدماغ، وخاصة في المناطق المرتبطة باللغة والوظائف التنفيذية مثل القشرة الجبهية. أظهرت الدراسات أن القراءة تزيد من كثافة المادة الرمادية وتعزز المرونة المعرفية طويلة الأمد.
- مشاهدة التلفاز/استخدام الهواتف الذكية :
المشاركة السلبية :
يُعتبر مشاهدة التلفاز أو استهلاك المحتوى الرقمي على الهواتف الذكية نشاطًا أكثر سلبية. يتطلب جهدًا معرفيًا أقل، حيث يتم تقديم المعلومات بصريًا وسمعيًا، بدلاً من فك تشفيرها وإنشائها عقليًا. يمكن أن يحد ذلك من التفكير النقدي والمعالجة العميقة.
تعدد المهام وتشتيت الانتباه :
تشجع الوسائط المعتمدة على الشاشات، وخاصة الهواتف الذكية، على تعدد المهام وقصر مدة الانتباه. الإشعارات والإعلانات المنبثقة وتوافر العديد من التطبيقات يمكن أن يجزئ الانتباه و يشتتة، مما يصعب على الدماغ الحفاظ على التركيز. مع مرور الوقت، قد يؤثر ذلك على قدرة الدماغ على الحفاظ على الانتباه لفترات طويلة.
عمق معرفي منخفض :
استهلاك الوسائط على الشاشات، وخاصة عبر منصات مثل وسائل التواصل الاجتماعي، يرتبط غالبًا بمعالجة سطحية للمعلومات. يحد الاستهلاك السريع للمحتوى القصير، مثل مقاطع الفيديو أو المنشورات، من فرصة التفكير العميق و تحليل الأفكار والمواضيع المعروضة.
2- التأثيرات العاطفية والتطورية :
- القراءة :
التعاطف والذكاء العاطفي :
من المعروف أن قراءة القصص الخيالية تعزز التعاطف والذكاء العاطفي. من خلال التعامل مع أفكار الشخصيات ومشاعرها وتجاربها، تطور القراء قدرة أكبر على فهم ومشاركة مشاعر الآخرين. أظهرت الدراسات أن قراء الأدب الخيالي يسجلون نتائج أعلى في اختبارات قياس نظرية العقل (القدرة على إسناد الحالات العقلية للآخرين).
تقليل التوتر :
تم ربط القراءة بانخفاض مستويات التوتر. الانغماس في الكتاب يمكن أن يوفر مهربًا ذهنيًا، ويقلل من معدلات ضربات القلب ويخفف من توتر العضلات. تعد القراءة شكلًا فعالًا من أشكال الاسترخاء وإدارة التوتر.
تعزيز الخيال والإبداع :
نظرًا لأن القراءة تتطلب إنشاء صور ذهنية، فإنها تعزز من التفكير الإبداعي والتخيل. يجب على القراء تخيل الشخصيات والإعدادات والسيناريوهات، مما يقوي قدرتهم على التفكير التجريدي والإبداعي.
- مشاهدة التلفاز/استخدام الهواتف الذكية :
عدم الاستقرار العاطفي :
تم ربط الاستخدام المفرط للهواتف الذكية والتلفاز، خاصة بين الأطفال والمراهقين، باضطرابات عاطفية. التدفق المستمر و الغزير للمعلومات والمقارنة الاجتماعية على منصات مثل وسائل التواصل الاجتماعي، والتعرض للمحتوى السلبي، يمكن أن يؤدي كل ذلك إلى الاكتئاب وتقلبات المزاج.
انخفاض التعاطف :
قد يؤدي الطابع السريع للوسائط الرقمية، وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي، إلى تقليل القدرة على التعاطف مع الآخرين. يحد قصر مدة التفاعل عبر الإنترنت من العمق العاطفي، وقد تؤدي عمليات التمرير و الانتقال المستمر بين محتويات تحمل مشاعر مختلفة بل و متناقضة إلى تقليل حساسية الأفراد تجاه مشاعر الآخرين أو معاناتهم في العالم الحقيقي.
زيادة التوتر والقلق :
تم ربط الوقت الطويل أمام الشاشات، خاصة الاستخدام المفرط للهواتف الذكية، بزيادة مستويات التوتر والقلق. يمكن أن يؤدي الانخراط الطويل و المستمر مع الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي والترفيه إلى تدهور جودة النوم والشعور المستمر بالتوتر.
3- التأثير على تطور الدماغ :
- القراءة :
تطوير اللغة والقراءة :
القراءة من سن مبكرة ضرورية لتطوير مهارات اللغة والقراءة. تقوي القراءة الشبكات اللغوية في الدماغ، وتعزز المفردات، وتدعم تطوير الطلاقة في القراءة والفهم.
التطور المعرفي :
تدعم القراءة، خاصة خلال مرحلة الطفولة، تطوير مهارات معرفية حاسمة مثل الذاكرة، وحل المشكلات، والتفكير التحليلي. كما أنها تدعم تطوير الوظائف التنفيذية مثل التنظيم الذاتي والتخطيط ووضع الأهداف.
المرونة العصبية :
تزيد القراءة من المرونة العصبية، وهي قدرة الدماغ على تشكيل وإعادة تنظيم الروابط العصبية استجابةً للتعلم والتجربة. يجعل ذلك الدماغ أكثر قدرة على التكيف والمرونة، خصوصا في مرحلة الطفولة، بل و حتى في المراحل المتقدمة من الحياة.
- مشاهدة التلفاز/استخدام الهواتف الذكية :
تأخر تطوير اللغة :
تشير الأبحاث إلى أن قضاء وقت مفرط أمام الشاشات، خاصةً لدى الأطفال الصغار، قد يؤدي إلى تأخير في تطوير اللغة. لا توفر الشاشات التواصل التفاعلي الذي يعد أساسيًا لتعلم التحدث وفهم اللغة.
ضعف الوظائف التنفيذية :
تم ربط الاستخدام العالي للوقت أمام الشاشات، خاصة في مرحلة الطفولة المبكرة، بنقص في الوظائف التنفيذية، مثل التحكم في الانفعالات والانتباه والذاكرة العاملة. الأطفال الذين يقضون وقتًا أطول أمام الشاشات يميلون إلى ضعف المرونة المعرفية ومهارات التنظيم الذاتي.
التأثير على النوم و إيقاعات الساعة البيولوجية :
يؤثر استخدام الشاشات، خاصةً قبل النوم، على أنماط النوم و إيقاعات الساعة البيولوجية. يتداخل الضوء الأزرق المنبعث من الشاشات مع إنتاج الميلاتونين، مما يجعل من النوم عملية صعبة ويقلل من جودته. يؤثر النوم السيء سلبًا على وظائف الدماغ، و عمل الذاكرة، والاستقرار العاطفي.
ختاما، نعيد التأكيد على أن القراءة والأنشطة القائمة على الشاشات تشتركان في تحفيز الدماغ، لكن تأثيراتهما تختلف بشكل كبير من حيث العمق المعرفي، والتأثير العاطفي، والنتائج التطورية. تعزز القراءة المشاركة المعرفية النشطة، والمعالجة العميقة، والنمو العاطفي، في حين يرتبط الاستخدام المفرط للشاشات بالمشاركة السلبية، وتشتيت الانتباه، والاضطرابات العاطفية.
يعد تحقيق التوازن بين هذه الأنشطة و التحكم في وقت استخدام الطفل للشاشات أمرًا ضروريًا لتعزيز صحة دماغه واستقراره العاطفي ونموه الإدراكي بشكل عام .